أحمد بن طولون
(220-270هـ/ 835-844م)
أحمد بن طولون أبو العباس, مؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام والثغور, تركي مستعرب من عشيرة الطُغُزغُز, أمه جارية اسمها قاسم وقيل هاشم, كان أبوه مملوكاً أهداه نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في جملة رقيق حمل إليه سنة 200هـ/816م, فرقاه الخليفة المأمون حتى صار من جملة الأمراء, وقيل إن طولون تبناه ولم يكن أحمد ابنه.
ولد في بغداد, وعاش في سامِرَّاء وبها تعلم وتأدب وتفقّه على مذهب الإمام أبي حنيفة, وحفظ القرآن الكريم, ورزق حُسن الصوت في تلاوته. انتشر له من حسن الذكر في قلوب الخلفاء, ما زاد على طبقته. وكان محله عندهم محل من يؤتمن على الأسرار والأموال وغيرها. اتصل بخدمة الخليفة المتوكل على الله, ففوض إليه ما كان لأبيه.
كان شديد الازدراء للأتراك لأنهم تسنموا من المراتب ما لا يستحقون, ولانتهاكهم حرمة الدين, وقيامهم بقتل الخلفاء, فطلب من الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان أن يكتب له برزقه في ثغر طَرَسوس, فانتقل إليها واشتغل فيها بالحديث والجهاد, ثم عاد إلى سامرّاء لما لحق بأمّه من الجزع على غيابه, وبَدَرَ منه في طريق العودة من الشجاعة ما زاد قدره في أعين رفاقه. ولما علم الخليفة المستعين بالله بذلك اصطنعه وحمل إِليه ألف دينار. وتوالت عليه جوائز الخليفة المستعين بالله, حتى حسنت حاله, وأهداه جارية اسمها ميّاس, ولدت له أبا الجيش خُمارَوَيْه سنة 250هـ /864 م, وكان قد تزوج قبلها بابنة عمه خاتون.
تنكرت الأتراك للخليفة المستعين, فعزلوه بعد أن استقر الأمر على خلافة المعتز. ونفي المستعين إلى واسط, مع أصلح من يختار ويرضى به الأتراك, فوقع الاختيار على أحمد بن طولون, ومضى به إلى واسط, فأحسن أحمد بن طولون عشرته, وأطلق له التنزه والصيد, ورفض قتله حين أمره الأتراك بذلك لقاء تقليده مدينة واسط, وكتب إِليهم «والله لا أرى الله وأنا قد قتلت خليفة بايعته أبداً». فأنفذوا سعيداً الحاجب فقتله, ولم يبرح ابن طولون حتى واراه ثم عاد إِلى سامراء.
كُلّف أحمد بن طولون ولاية الفسطاط, قصبة مصر, نيابة عن واليها الأصلي باكباك التركي سنة 254هـ/ 868م. وحين دخل إِلى مصر وجدها مقسمة بين عدة أشخاص, ولذلك كان موقفه ضعيفاً لأنه كان نائباً على منطقة محدودة من مصر, وفي استطاعة واليها الأصلي عزلـه إِذا لم يحز رضاه. يضاف إِلى ذلك ما كان من منافسة ابن المدبّر, عامل الخراج في مصر, ومحاولته الإيقاع به عند الخليفة, ويبدو أن أسباب كره ابن المدبّر لأحمد بن طولون تكمن في ما لمسه من شهامته, وما يعرفه من كره الأهالي له بسبب زيادة الضرائب عليهم, واستعماله القسوة في الجباية.
وما لبثت الأحوال أن تغيرت لمصلحة أحمد بن طولون, فقد قتل باكباك, فتولى مصر القائد التركي يارجوخ, وكان بينه وبين أحمد بن طولون مصاهرة, فاستخلفه على مصر كلها. وحين توفي يارجوخ سنة 257هـ/ 871م تقلد ابن طولون ولاية مصر من الخليفة مباشرة, فتوطدت قدمه فيها, وتمكن من تأسيس الدولة الطولونية في مصر.
عمل أحمد بن طولون على تقوية نفوذه في مصر, فشرع في تحصين البلاد, وإِعداد الجيش وتسليحه, وإنشاء السفن الحربية, وتطلع إلى حماية حدوده الشمالية, فمد سلطانه إلى بلاد الشام بما فيها الثغور سنة 264هـ/ 878م, بموافقة الخلافة العباسية بعد شعورها بعجز قواتها عن الدفاع عن الحدود أمام البيزنطيين. فنظّم شؤون الشام والثغور, وترك بها قوّات كثيرة, ووزع الحاميات في المدن الرئيسية فجعل حامية في دمشق, وثانية في الرقة, وثالثة في حَرّان. كما ضم إلى دولته منطقة بُرقة, وعمل على ضمّ الحجاز.
نشب نزاع بين أحمد بن طولون والموفّق أخي الخليفة العباسي المعتمد على الله, منذ سنة 262هـ/875 م, بسبب إرساله الأموال إلى الخليفة من دونه وهو في حاجة إليها لقتال صاحب الزنج. فعمل على تقليص نفوذه وتأليب ولاته عليه في الشام والثغور. وزادت الأمور حدّة حين عزم الخليفة المعتمد على الله, سنة 269هـ /882-883 م, على ترك بغداد هرباً من أخيه الموفق. فشجعه ابن طولون, وحسّن له المجيء إلى مصر, وأرسل له سفتجة بمئة ألف دينار, لم يستطع الخليفة الالتجاء إِلى ابن طولون, لتنبّه الموفق إِلى الأمر, عندئذ عقد ابن طولون اجتماعاً في دمشق, ضمّ القضاة والأشراف في دولته, واتخذ قراراً بخلع الموفق لمخالفته للمعتمد وحصره, وذلك سنة 269هـ/ 883م, فأمر الموفق بلعن أحمد بن طولون على المنابر, وحُمل المعتمد على إِصدار هذا القرار إِضافة إِلى قرار بمنح ولاية المناطق التابعة لابن طولون إِلى إِسحاق بن كنداج.
كان لموقف الموفق الحازم من أحمد بن طولون أكبر الأثر في قوته وموقفه في الشام, ولاسيما أنه سبق ذلك هزيمة قوات ابن طولون في مكة على يد قوات الموفق, فقد شغب الأمراء في الولايات, وكان لهذا أثره في موقفه العسكري, فثارت عليه بعض المدن, وحلت به الهزيمة في طَرَسوس, وخرج عليه ابنه العباس.
وفي غمرة هذه الأحداث, بنى ابن طولون على قبر معاوية بن أبي سُفيان أربعة أروقة, ورتب عند القبر أناساً يقرؤون القرآن, ويوقدون الشموع. وقد يكون ذلك تحدياً لبني العباس, ويبدو أن ما استحدثه ابن طولون استمر في عهد أبنائه.
كان أحمد بن طولون سياسياً محنكاًَ, وقائداً ماهراً, خبيراً بأساليب الحروب وتعبئة الجيوش, جواداً, فقد كانت له مائدة ينفق عليها ألف دينار في كل يوم يحضرها العام والخاص. وكان يبعث بالصدقات إِلى دمشق والعراق والجزيرة والثغور وبغداد وسامراء والكوفة والبصرة والحرمين وغيرها, فَحُسِبَ ذلك فكان ألف ألف ومئتي ألف دينار.
كان عادلاً يتفقد أحوال رعاياه, شديداً على خصومه يفتك بمن عصاه, ويقال إِنه أُحصي من قتله, ومن مات في حبسه, فكان عددهم ثمانية عشر ألفاً, فاستتب له الأمن, وسادت الطمأنينة.
كان يحب أهل العلم ويقرّبهم إِليه. واهتم بتعمير البلاد, فبنى مدينة القطائع, واتخذها عاصمة له, وفرّق فيها الأزقة والشوارع والسكك. كما بنى المسجد الذي عرف باسمه فيها, وأنفق على عمارته مئة وعشرين ألف دينار. وبنى قبة الهواء على جبل يشكر خارج القاهرة, وبنى البئر بالقرافة والبيمارستان في أرض العسكر. وأنشأ حمامين أحدهما للرجال, وآخر للنساء, وبنى المنظر لعرض الخيل, كما بنى قصراً لنفسه في الميدان السلطاني, الذي تحت قلعة الجبل, فسمي القصر بالميدان.
توفي أحمد بن طولون في مصر في ذي القعدة, وخلّف ثلاثة وثلاثين ولداً, منهم سبعة عشر ذكراً, وخلف في خزائنه أموالاً كثيرة, وسبعة آلاف مملوك, وأربعة وعشرين ألف غلام, وعدداً من الخيل والبغال والدواب. وقد خلفه في حكم الدولة ابنه أبو الجيش خمارويه.